الجمعة، 26 أغسطس 2022

التباين المنهجي بين المتقدمين والمتأخرين في علوم الحديث *الشيخ عبدالله السعد

 

 

التباين المنهجي بين المتقدمين والمتأخرين
في قسمي علوم الحديث
النظري والتطبيقي ، وأسباب ذلك الشيخ عبدالله السعد


إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم .
إن معرفة منهج المتقدمين في الصناعة الحديثية أمر لا بد منه كما في باقي العلوم الشرعية (1) ، لأن أهل العلم ليسوا على منهج واحد في الصناعة الحديثية ، بل على مناهج متعددة ، فعلى هذا لا بد من معرفة طريقتهم ثم السير عليها .
*
قال أبو الفرج ابن رجب رحمه الله تعالى :
( وكذا الكلام في العلل و التواريخ قد دونه أئمة الحفاظ وقد هجر في هذا الزمان ودرس حفظه وفهمه ، فلولا التصانيف المتقدمة فيه لما عُرف هذا العلم اليوم بالكلية ، ففي التصانيف فيه ونقل كلام الأئمة المتقدمين مصلحة عظيمة جدا ، وقد كان السلف الصالح مع سعة حفظهم وكثرة الحفظ في زمانهم يأمرون بالكتابة للحفظ ، فكيف بزماننا هذا الذي هجرت فيه علوم سلف الأمة وأئمتها ولم يبق منها إلا ما كان منها مدونا في الكتب لتشاغل أهل الزمان بمدارسة الآراء المتأخرة و حفظها ) اهـ من ( شرح العلل ) ص:74 بتحقيق / السامرائي .
*
و قال أبو الفضل بن حجر رحمه الله تعالى مبينا جلالة المتقدمين في هذا الفن وعلو كعبهم في هذا العلم :
(وبهذا التقرير يتبين عظم موقع كلام الأئمة المتقدمين ، وشدة فحصهم ، وقوة بحثهم ، وصحة نظرهم ، وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم (2) في ذلك ، والتسليم لهم فيه ) ا.هـ من ( النكت ) 2/726.
*
قال أبو الوفا بن عقيل مبينا اختلاف الفقهاء و المحدثين في الحكم على الأحاديث بعد أن ذكر حديثا ضعفه أحمد بعد أن سئل عنه وهو حديث معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم :( أن غيلان أسلم وعنده عشر نسوة ) قال أحمد : (ليس بصحيح ، والعمل عليه ، كان عبدالرزاق يقول : عن معمر عن الزهري مرسلا ) .
قال ابن عقيل : (ومعنى قول أحمد ( ضعيف ) على طريقة أصحاب الحديث ، وقوله ( والعمل عليه ) كلام فقيه يعول عليه على ما يقوله الفقهاء من إلغاء التضعيف من المحدثين لأنهم يضعفون بما لا يوجب ضعفاً عند الفقهاء ، كالإرسال والتدليس والتفرد بالرواية ، وهذا موجود في كتبهم، يقولون : وهذا الحديث تفرد به فلان وحده ... ) ا.هـ من ( الواضح في أصول الفقه ) 5/21-22.
قول ابن عقيل في تفسير كلام أحمد في قوله ( والعمل عليه ) : ( كلام فقيه يعول على ما يقوله الفقهاء من إلغاء التضعيف من المحدثين ... ) ليس بصحيح فالإمام أحمد ضعف هذا الحديث لأن معمرا حدث به بالبصرة فأخطأ فيه ووصله و عندما حدث به في اليمن أرسله كما رواه عنه عبدالرزاق ، وحديث معمر باليمن أصح من حديثه بالبصرة ، وقد خالف الحفاظ من أصحاب الزهري معمرا في هذا الحديث ، ولذلك ذهب أكثر الحفاظ إلى تضعيف حديث معمر كما قال أحمد ، فقال البخاري عنه ( هذا الحديث غير محفوظ ) وحكم مسلم في كتابه ( التمييز ) على معمر بالوهم فيه ، وقال أبو زرعة و أبو حاتم : ( المرسل أصح ) . ينظر ( تلخيص الحبير ) 3/192.
و أما قول أحمد ( والعمل عليه ) فلا شك في هذا لأن القرآن والإجماع يدلان على ذلك و ليس كما قال ابن عقيل أن احمد يأخذ بقول الفقهاء في تصحيح هذا الحديث . فميز ابن عقيل بين طريقة المحدثين والفقهاء .
*
وقال شيخه القاضي أبو يعلى في ( إبطال التأويلات ) 1/140 تعليقاً على كلام أحمد في حكمه على حديث عبدالرحمن بن عايش بالاضطراب ، قال : ( فظاهر هذا الكلام من أحمد التوقف في طريقه لأجل الاختلاف فيه ، ولكن ليس هذا الكلام مما يوجب تضعيف الحديث على طريقة الفقهاء ) ا.هـ .
و الشاهد من هذا اختلاف مناهج أهل العلم في الصناعة الحديثية ، وأنهم ليسوا على منهج واحد كما يقول بعض الإخوان وأن في هذا تفريقا للأمة ، و أنه ليس هناك من له منهج خاص في الصناعة الحديثية إلا محيي الدين النووي ، فهذا القول لا شك في بطلانه و حكايته في الحقيقة تغني عن رده .
*
و قال تقي الدين ابن دقيق العيد في كتابه ( الاقتراح ) ص: 152 في بيان مذاهب أهل العلم واختلاف مناهجهم في حد الحديث الصحيح ، قال : ( اللفظ الأول و مداره بمقتضى أصول الفقهاء والأصوليين على عدالة الراوي العدالة المشترطة في قبول الشهادة على ما قرر في الفقه ، فمن لم يقبل المرسل منهم زاد في ذلك أن يكون مسندا ، وزاد أصحاب الحديث أن لا يكون شاذا ولا معللا ، وفي هذين الشرطين نظر على مقتضى نظر الفقهاء فإن كثيرا من العلل التي يعلل بها المحدثون الحديث لا تجري على أصول الفقهاء ، وبمقتضى ذلك حد الحديث الصحيح بأنه : الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط إلى منتهاه ولا يكون شاذا ولا معللاً ، ولو قيل في هذا الحديث الصحيح المجمع على صحته هو كذا وكذا إلى آخره لكان حسنا لأن من لا يشترط مثل هذه الشروط لا يحصر الصحيح في هذه الأوصاف ومن شرط الحد : أن يكون جامعا مانعا) ا.هـ .
قلت : وقول ابن دقيق هذا يدل على اختلاف أهل العلم في حد الحديث الصحيح و تباين طرائقهم في ذلك كما تقدم .
وقوله : ما اشترطه أهل الحديث في حد الحديث الصحيح : أن لا يكون شاذا ولا معللاً ، وأن في هذين الشرطين نظر عند الفقهاء تقدم هذا فيما قاله القاضي أبو يعلى وابن عقيل من تضعيف الإمام أحمد للحديثين السابقين : أن هذا لا يجري على طريقة الفقهاء .
ولذلك قال أبو عبدالله بن القيم في ( زاد المعاد ) 5/96-97:
( وليس رواية الحديث مرسله (3) بعلة فيه ، فإنه قد روي مسندا ومرسلا ، فإن قلنا بقول الفقهاء : إن الاتصال زيادة ومن وصله مقدم على من أرسله فظاهر ، وهذا تصرفهم في غالب الأحاديث فما بال هذا خرج عن حكم أمثاله ، وإن حكمنا بالإرسال كقول كثير من المحدثين فهذا مرسل قوي .. ) ا.هـ .
*
وقال ابن رجب ناقدا الخطيب البغدادي في بعض منهجه في كتابه ( الكفاية ) في مبحث ( زيادة الثقة ) وأنه لم يسلك منهج من تقدم من الحفاظ وإنما سلك منهج المتكلمين وغيرهم ، فقال ص:312 من ( شرح العلل ) : ( ثم إن الخطيب تناقض فذكر في كتاب ( الكفاية ) للناس مذاهب في اختلاف الرواة في إرسال الحديث ووصله كلها لا تعرف عن أحد من متقدمي الحفاظ إنما هي مأخوذة من كتب المتكلمين ثم إنه اختار أن الزيادة من الثقة تقبل مطلقا كما نصره المتكلمون وكثير من الفقهاء وهذا يخالف تصرفه في كتابه ( تمييز المزيد ) ... ) ا.هـ .
*
وقال برهان الدين البقاعي في ( النكت الوفية على الألفية ) ص: 99 مبينا طريقة كبار الحفاظ في تعارض الوصل والإرسال في الحديث و الرفع والوقف وزيادة الثقات و ناقدا لابن الصلاح الذي خلط في هذه المسألة طريقة المحدثين بطريقة الأصوليين فقال:
( إن ابن الصلاح خلط هنا طريقة المحدثين بطريقة الأصوليين ، فإن للحذاق من المحدثين في هذه المسألة نظر آخر لم يحكه وهو الذي ينبغي أن يعدل عنه وذلك أنهم لا يحكمون بحكم مطرد وإنما يدورون في ذلك مع القرائن .. )(4) ا.هـ .
قلت : وقد سلك كثير من المشتغلين بعلم الحديث طريقة الفقهاء والمتكلمين من الأصوليين واختلط الأمر عليهم ، ولذلك كثرت مخالفتهم لكبار الحفاظ في أحكامهم على الأحاديث فصححوا ما أعله كبار الحفاظ و ضعفوا ما صححه كبار الحفاظ.
*
قال عبدالرحمن المعلمي رحمه الله تعالى في مقدمته لكتاب ( الفوائد المجموعة ) للشوكاني مبينا تساهل كثير من المتأخرين في حكمهم على الأحاديث :
( إنني عندما أقارن نظري بنظر المتأخرين أجدني أرى كثيرا منهم متساهلين وقد يدل ذلك على أن عندي تشددا قد لا أُوافق عليه غير أني مع هذا كله رأيت أن أبدي ما ظهر لي ناصحا لمن وقف عليه من أهل العلم أن يحقق النظر ولا سيما من ظفر بما لم أظفر به من الكتب التي مرت الإشارة إليها ) ا.هـ من المقدمة لكتاب ( الفوائد المجموعة ) ص: 8
وقال أيضاً في ( الأنوار الكاشفة ) ص:29: ( وتحسين المتأخرين فيه نظر ) ا.هـ .
ولذلك تجد أن بعض أهل العلم بالحديث ينبهون على طريقة من تقدم من الحفاظ في القضايا الحديثية التي يعالجونها
·
قال أبو عبدالله بن القيم في ( الفروسية ) ص62 مبينا الطريقة السليمة والمنهج الصحيح الذي كان يسلكه أئمة الحديث في الحكم على الراوي ورادا على من خالف هذا المنهج فقال :
( وتضعيفه أين وُجد ، كما يفعله بعض المتأخرين من أهل الظاهر وغيرهم ) ا.هـ
·
وقال أبو الفرج بن رجب في بيان منهج أئمة الحديث في قضية التفرد في الحديث والتفرد في بعض الألفاظ في الحديث : ( وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا تفرد به واحد وإن لم يرو الثقات خلافه أنه (5) لا يتابع عليه ، ويجعلون ذلك علة فيه اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه كالزهري ونحوه ، وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار أيضاً ولهم في كل حديث نقد خاص ، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه ) ا.هـ من ( شرح العلل ) .
·
وقال أيضاً ص 272 من ( شرح العلل ) في اشتراط اللقاء حتى يحكم للخبر بالاتصال : ( وأما جمهور المتقدمين فعلى ما قاله علي بن المديني والبخاري وهو القول الذي أنكره مسلم على من قاله ...) ا.هـ.
·
وقال أيضاً ص 311 من ( شرح العلل ) في مسألة الاختلاف في وصل الأخبار أو إرسالها أو تعارض الوقف مع الرفع : ( وقد تكرر في هذا الكتاب ذكر الاختلاف في الوصل والإرسال والوقف والرفع وكلام أحمد وغيره من الحفاظ يدور على قول الأوثق في ذلك والأحفظ أيضاً ... ) ا.هـ .
والكلام في هذا يطول .
وعلى هذا فيستحسن بيان ( منهج المتقدمين ) أو ( أئمة الحديث ) في قضايا علم الحديث التي وقع فيها الخلاف مثل العلة والشذوذ والتفرد وزيادة الثقات وغيرها من القضايا ، وقد بين بحمد الله تعالى أهل العلم هذه القضايا فدونك مثلاً ( شرح العلل ) لابن رجب ، و( النكت على ابن الصلاح ) لابن حجر وغيرها . ولعلي أتحدث باختصار عن ( التدليس ) وكيفية التعامل معه ، فأقول وبالله التوفيق :
التدليس ينقسم إلى :
1- تدليس الإسناد .
2- تدليس التسوية .
3- تدليس الشيوخ .
4- تدليس الإرسال .
5- تدليس العطف .
6- تدليس المتابعة .
7- لاتدليس القطع أو السكوت .
8- تدليس الصيغ : أي صيغة التحمل .
9- تدليس البلدان .
10- تدليس المتون .
11- تدليس قد يختلف (6) عما تقدم وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام عليه .
وكل نوع من هذه الأنواع له حكم خاص في التعامل معه .
فإذا وصف الراوي بالتدليس فالذي ينبغي عمله هو :
1- التأكد من ذلك ، فمن المعلوم أنه ليس كل من وصف بذلك يصح عنه ، وممن وصف بالتدليس ولم يصح عنه ( شعبة بن الحجاج ) فقد وصفه بذلك أبو الفرج النهرواني ولم يثبت ذلك عنه ، بل الثابت عنه خلافه ، وينظر ( النكت على ابن الصلاح ) لابن حجر 2/628 – 630 فقد ذكر ذلك عن النهرواني وَرَدَّهُ .
وممن وصف بالتدليس ولم يصح عنه ( عمر بن عبيد الطنافيسي ) فقد ذكره ابن حجر في ( النكت ) 2/641 تحت ترجمة ( من أكثروا من التدليس وعرفوا به ) ، وفي ( النكت ) 2/617 قال الحافظ ابن حجر : ( وفاتهم أيضاً فرع آخر وهو تدليس القطع ، مثاله ما رويناه في ( الكامل ) لأبي أحمد بن عدي وغيره عن عمر بن عبيد الطنافيسي أنه كان يقول : ثنا ثم يسكت ينوي القطع ثم يقول : هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها . ا.هـ.
قلت : إن هذا وهم ، والموصوف بذلك هو ( عمر بن علي بن عطاء مقدم المقدمي ) (7).
·
قال ابن سعد في ( الطبقات ) 7/291 عنه : ( وكان يدلس تدليساً شديداً وكان يقول : سمعت وحدثنا ثم يسكت ثم يقول : هشام بن عروة ، الأعمش ) ا.هـ.
·
وقال عبد الله بن أحمد : سمعت أبي ذكر عمر بن علي فأثنى عليه خيرا ، وقال :
( كان يدلس ، سمعته يقول : حجاج سمعته يعني : ثنا آخر ، قال أبي : هكذا كان يدلس ) ا.هـ من ( تهذيب الكمال ) .
وهذا النص موجود في سؤالات عبدالله بن أحمد لأبيه 3/14 ولكن أخطأ المحقق في قراءة النص ففصل أول الكلام عن آخره .
وأما عمر بن عبيد الطنافسي فلا أعلم أن أحداً وصفه بالتدليس أصلاً غير الحافظ ابن حجر في ( النكت ) ولذلك لا أعلم أن أحداً ذكره في ( طبقات المدلسين ) حتى ابن حجر في ( طبقاته ) لم يذكره ، فهذا يدل على وهمه عندما وصفه بالتدليس والله أعلم .
فعلى هذا لا بد من التأكد أولاً من وصف الشخص بالتدليس .
2- عندما يثبت أن هذا الراوي قد وصف بالتدليس فالذي ينبغي بعد ذلك تحديد نوع التدليس الذي وصف به .
فكما تقدم أن التدليس أنواع عديدة ، ولذلك أكثر أهل العلم من الحديث عن هذه الأنواع مع أنهم في كثير من المواضع يطلقون الوصف بالتدليس ولا يحددونه ، وفي موضع آخر يبينون هذا النوع من التدليس الذي وصف به هذا الراوي ، أو أن بعضهم يصفه بالتدليس ويطلق ولا يبين ثم تجد أن غيره بين هذا النوع .
فمثلاً : ( عبدالله بن وهب المصري ) .
قال عنه ابن سعد كما في ( الطبقات ) 7/518:
( كان كثير العلم ثقة فيما قال : حدثنا وكان يدلس ) ا.هـ .
قلت : لا أعلم أن أحداً وصفه (8) بالتدليس غير ابن سعد(9) وقد يُظن من كلام ابن سعد أنه يصفه بتدليس الإسناد والذي يظهر أن ابن وهب لا يدلس تدليس الإسناد بمعنى أنه يسقط من الإسناد من حدثه ، وإنما يدلس تدليس الصِّيَغ(10) ويسيء الأخذ أحياناً في الرواية عن شيوخه .
قال ابن معين : سمعت عبدالله بن وهب قال لسفيان بن عيينة : يا أبا محمد الذي عرض عليك أمس فلان أجزها لي ، فقال : نعم .
وقال أيضاً : رأيت عبدالله بن وهب يعرض له على سفيان بن عيينة وهو قاعد ينعس أو وهو نائم . ا.هـ من ( تاريخ الدوري ) 2/236.
وقال أحمد : عبدالله بن وهب صحيح الحديث يَفْصِل السماع من العرض والحديث من الحديث ، ما أصح حديثه وأثبته !.
فقيل لأحمد : أليس كان يسيء الأخذ . قال : قد يسيء الأخذ ولكن إذا نظرت في حديثه وما روى عن مشايخه وجدته صحيحاً . ا.هـ من ( تهذيب الكمال ) .
وقال عبدالله بن أيوب المخرمي : كنت عند ابن عيينة وعنده ابن معين فجاءه عبدالله بن وهب ومعه جزء فقال : يا أبا محمد أحدث بما في هذا الجزء عنك ، فقال لي (11) يحيى بن معين : يا شيخ هذا والريح بمنزلة ، ادفع إليه الجزء حتى ينظر في حديثه . ا.هـ من ( الكامل ) 4/1518.
وقال الساجي عنه : ( صدوق ثقة ، وكان من العباد وكان يتساهل في السماع لأن مذهب أهل بلده أن الإجازة عندهم جائزة ، ويقول فيها : حدثني فلان ) ا.هـ من التهذيب .
فالذي يبدو أن ابن سعد يقصد ما تقدم ، ولا يقصد أن ابن وهب يسقط من حدّثَه .
مثال آخر : ( الوليد بن مسلم )
وُصِفَ بالتدليس ، وفي بعض المواضع لم يبيّن هذا النوع من التدليس الذي وصف به ، وفي الكتب الموسعة تجد أنه يدلس ثلاثة أنواع من التدليس وهي :
1- تدليس الإسناد .
2- تدليس التسوية (12).
وهذان مشهوران عنه ولا حاجة إلى ذكر الدليل على ذلك .
3- تدليس الشيوخ .
قال أبو حاتم ابن حبان في ( المجروحين ) 1/91: ( ومثل الوليد بن مسلم إذا قال : ثنا أبو عمرو فَيُتَوهَّم أنه أراد الأوزاعي وإنما أراد به عبدالرحمن بن يزيد بن تميم وقد سمعا جميعاً من الزهري ) ا.هـ.
ومثله : بقية بن الوليد يدلس هذه الأنواع الثلاثة .
فعلى هذا : لا بد من تحديد نوع التدليس ، لأن كل تدليس يعامل بخلاف الآخر .
3-
فإذا حُدّد نوع التدليس الذي وصف به هذا الراوي .
فإن كان تدليس الإسناد
فالذي ينبغي عمله هو :
أ – هل هو مكثر من هذا التدليس أو مقل ؟ فمن المعلوم إذا كان مقلاً من هذا النوع من التدليس يعامل غير ما يعامل فيما لو كان مكثرا .
قال يعقوب بن شيبة السدوسي : سألت علي بن المديني عن الرجل يدلس أيكون حجة فيما لم يقل : حدثنا ، قال : إذا كان الغالب عليه التدليس فلا حتى يقول : حدثنا . ا.هـ من ( الكفاية ) ص 362.
وما ذهب إليه علي بن المديني ظاهر لأنه إذا كان مقلاً من التدليس فالأصل في روايته الاتصال واحتمال التدليس قليل أو نادر فلا يذهب إلى القليل النادر ويترك الأصل والغالب .
ولأنه أيضاً يكثر من الرواة الوقوع في شيء من التدليس فإذا قيل لا بد في قبول حديثهم من التصريح بالتحديث منهم رُدّت كثير من الأحاديث الصحيحة .
ولذلك لم يجر العمل عند من تقدم من الحفاظ أنهم يردون الخبر بمجرد العنعنة ممن وصف بشيء من التدليس ودونك ما جاء في الصحيحين وتصحيح الترمذي وابن خزيمة وغيرهم من الحفاظ .
·
وأما ما قاله أبو عبدالله الشافعي في ( الرسالة ) ص 379 – 380 : ( ومن عرفناه دلس مرة فقد أبان لنا عورته في روايته … فقلنا لا نقبل من مدلس حديثاً حتى يقول فيه : حدثني أو سمعت ) ا.هـ.
فهذا الأقرب أنه كلام نظري ، بل لعل الشافعي لم يعمل به هو ، فقد روى لابن جريج في مواضع من كتبه بعضه محتجاً به بالعنعنة ، ولم يذكر الشافعي أن ابن جريج سمع هذا الخبر ممن حدث عنه ، ينظر 498و 890 و 903 من ( الرسالة )، وأبو الزبير أيضاً ، ينظر 498 و 889 ، والأمثلة على هذا كثيرة لمن أراد أن يتتبعها .
·
وقال أبو حاتم ابن حبان في مقدمة صحيحه كما في ( الإحسان ) 1/161 نحوا مما قال الشافعي ، ويجاب عليه كما أجيب عن قول الشافعي .
وعمل الحفاظ على خلاف هذا كما تقدم .
ولذلك قال يحيى بن معين عندما سأله يعقوب بن شيبة عن المدلس أيكون حجة فيما روى ، أو حتى يقول : حدثنا وأخبرنا ، فقال : لا يكون حجة فيما دلس . اهـ من ( الكفاية ) ص 362، يعني إذا دل الدليل على أنه دلس في هذا الخبر لا يحتج به ، وليس حتى يصرح بالتحديث .
ولذلك قال يعقوب بن سفيان في ( المعرفة ) 2/637: ( وحديث سفيان وأبي إسحاق والأعمش ما لم يعلم أنه مدلس يقوم مقام الحجة ) اهـ.
ب- ثم ينظر : هل ثبت لهذا الراوي لقاء وسماع عمن حدّث عنه أو لا ؟
لأنه لا بد في اتصال الخبر من ثبوت ذلك سواء كان هذا الراوي موصوفاً بالإرسال والتدليس أم لا ، وهذا ما ذهب إليه جمهور الحفاظ ممن تقدم .
-
قال ابن رجب في( شرح العلل ) ص 272:
(وأما جمهور المتقدمين فعلى ما قاله ابن المديني والبخاري ، وهو القول الذي أنكره مسلم على من قاله)اهـ .
لأن الأصل هو الانقطاع فلا بد من ثبوت اللقاء والسماع حتى يحكم للخبر بالاتصال ، فإذا ثبت ذلك فنحن على هذا الأصل حتى يدل دليل على خلافه من كونه مثلاً لم يسمع هذا الراوي من شيخه إلا القليل ونحو ذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
وإرسال الأخبار من قبل الرواة كثير ، ولذلك وصف بهذا جمع كبير من الرواة خاصة في الطبقات العليا من الإسناد كطبقة التابعين فكثيراً ما يرسلون عن الصحابة ، أو في رواية الأبناء عن آبائهم مثل رواية أبي عبيدة عن أبيه ابن مسعود فإنه لم يسمع منه ، ورواية محمد بن إسماعيل بن عياش عن أبيه، وعمرو بن شعيب عن أبيه ، وأبيه عن جده عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، ومخرمة بن بكير عن أبيه.
ولذلك لا بد من ثبوت اللقاء بين الراوي ومن حدث عنه ، وقد تساهل في هذا كثير من المتأخرين حتى صححوا أسانيد لا شك في انقطاعها ، ومن أغرب ما مرّ علي في ذلك ما رواه ابن حبان في صحيحه ( 199) من طريق محمد بن إبراهيم عن سعيد بن الصلت عن سهيل بن بيضاء قال : ( بينما نحن في سفر مع الرسول... )، وسهيل مات في عهد الرسول كما جاء هذا في صحيح مسلم ، وسعيد بن الصلت تابعي وقد ترجم له ابن أبي حاتم في ( الجرح (4/34 ونقل عن أبيه أن رواية سعيد عن سهيل مرسلة .
فكيف يروي رجل من التابعين عن صحابي مات في عهد الرسول e ؟ وتنظر ( الإصابة ) فقد بين ذلك ابن حجر في ترجمة ( سهيل بن بيضاء ) .
ومن ذلك :
ما رواه ابن حبان أيضاً (745) من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ابن مسعود .. فذكر حديثا ، وهذا الخبر انقطاعه واضح لأن أبا سلمة لم يسمع من أبيه عبد الرحمن بن عوف ، وقد توفي وهو صغير وكانت وفاة عبد الرحمن وابن مسعود سنة 32 على المشهور ، فإذا كان لم يسمع من أبيه الذي هو في بيته ، فعدم سماعه من ابن مسعود من باب أولى .
والذي دعا ابن حبان إلى تصحيح هذه الأخبار هو عدم أخذه بهذا الشرط ولذلك قال ابن رجب في ( شرح العلل) ص 271:
(وكثير من العلماء المتأخرين على ما قاله مسلم رحمه الله من أن إمكان اللُّقى كاف في الاتصال من الثقة غير المدلس وهو ظاهر كلام ابن حبان وغيره...)ا.هـ
أما إذا نص الحفاظ على أن هذا الراوي لم يسمع من شيخه إلا القليل كأن يكون سمع منه حديثا أو حديثين أو نحو ذلك فحينئذٍ يكون الأصل في روايته الانقطاع إلا ما صرح فيه بالسماع أو نص الحفاظ على أنه سمع هذا الخبر بعينه عمن رواه عنه ونحو ذلك .
ومثال على هذا رواية الحسن عن سمرة ، ثبت في صحيح البخاري سماعه من سمرة لحديث العقيقة وقد روى نحوا من 164حديثا بالمكرر كما في الطبراني في الكبير(7/ 6800 –6964.)
وبعض هذه الأحاديث فيها نكارة ، ولا شك أن العلة في ذلك ليست من الحسن لأنه إمام ، فعلى هذا تكون من الواسطة بينهما ولذلك القول الراجح في رواية الحسن عن سمرة : الأصل أنها منقطعة ، والقول بأنه لم يسمع منه إلا حديث العقيقة قول قوي ، وقد أخرج عبد الله بن أحمد عن أبيه ثنا هشيم أخبرنا ابن عون قال : ( دخلنا على الحسن فأخرج إلينا كتابا من سمرة ...) ا.هـ من ( العلل) 2/260 فهذا يؤيد أنها صحيفة ولم تكن سماعا، والله أعلم.
ج – ثم ينظر : هل هو يدلِّس على الإطلاق، أو دلَّس عن شيوخ بعينهم ، أو إذا روى عن شيخه(فلان) فإنه لا يدلس عنه ، أو أنه يدلِّس في فن معين ، أو لا يدلس إلا عن ثقة ؟
فإذا كان يدلس في شيوخ معينين فلا يصلح تعميمه في غيره، فمثلا: ( عبد الله بن أبي نجيح ) روى عن مجاهد ( التفسير) وهو لم يسمعه منه ،وإنما لعله دلسه ، فعلى هذا لا يعمم هذا الحكم في كل رواية رواها ابن أبي نجيح عن مجاهد على أن الواسطة بينهما في رواية التفسير ثقة ،فعلى هذا تكون صحيحة .
ومن ذلك : ما قاله عبد الله بن أحمد عن أبيه وقد ذكر ( عطية العوفي ) فقال : ( هو ضعيف الحديث ، بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي فيأخذ عنه التفسير وان يكنيه بأبي سعيد ، فيقول : قال أبو سعيد قال أبو سعيد ) .
قال عبد الله : وحدثنا أبي ثنا أبو أحمد الزبيري سمعت الثوري قال : سمعت الكلبي قال : كناني عطية بأبي سعيد.
قال ابن رجب : ( لكن الكلبي لا يعتمد على ما يرويه ، وإن صحت هذه الحكاية عن عطية فإنما يقتضي التوقف فيما يحكه عطية عن أبي سعيد من التفسير خاصة ، فأما الأحاديث المرفوعة التي يرويها عن أبي سعيد فإنما يريد أبا سعيد الخدري ويصرح في بعضها بنسبته ) اهـ من ( شرح العلل)ص 471.
والشاهد من هذا هو عدم تعميم هذا الحكم في كل ما رواه عطية عن أبي سعيد فيقال ( لعله الكلبي ) ويستدل على هذا بالقصة السابقة .
ومن ذلك : أن الحفاظ ينصون أحيانا أن فلانا ليس له تدليس عن فلان أو غيره من شيوخه . ومن ذلك ما قاله البخاري عن الثوري : ( ولا أعرف للثوري عن حبيب بن أبي ثابت ولا عن سلمة بن كهيل ولا عن منصور – وذكر مشايخ كثيرة – لا أعرف لسفيان عن هؤلاء تدليسا ، ما أقل تدليسه ) اهـ من ( العلل الكبير) للترمذي 2/966.
ومن ذلك : إذا كان الراوي الموصوف بالتدليس مكثرا عن شيوخ معينين فالأصل في روايته أنها تحمل على الاتصال ، قال الذهبي في الميزان 2/ 224 عن الأعمش : ( وهو يدلس وربما دلس عن ضعيف ولا يدري به فمتى قال حدثنا فلا كلام ، ومتى قال عن تطرق إليه احتمال التدليس إلا في شيوخ له أكثر عنهم كإبراهيم وأبي وائل وأبي صالح السمان فإن روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال )ا.هـ .
د- . ثم ينظر بعد ذلك إلى القرائن الأخرى من استقامة الخبر .
فإذا وجِد في الخبر نكارة أو غرابة أو مخالفة فهذا قرينة على التدليس ، ولذلك تجد أن الأئمة أحيانا إذا استنكروا شيئا ردوه بعدم ذكر السماع كما هو معلوم .
وأما إذا كان المدلس يدلس تدليس التسوية
أ-فينظر إلى تصريحه بالتحديث ببينه وبين شيخه وشيخ شيخه لأن التسوية هي إسقاط شيخ شيخه من قبل الراوي.
و قد يكون المسقط ضعيفا وهو الغالب أو لا ، ينظر ( النكت على ابن الصلاح) لابن حجر 2/621
بهذا النوع وهو( تدليس التسوية) من حيث الناحية العملية ليس بالكثير.
فمثلا ( بقية بن الوليد) وهو ممن وصف بذلك لو فتشت عن أمثلة لهذا النوع من التدليس قد لا تجد إلا مثالا واحدا ذكره الخطيب في (الكفاية) ص 364 عن أبي حاتم الرازي ، وهو في العلل 2/154-155 وذكر أيضا هذا المثال من جاء بعد الخطيب.
ولعل (الوليد بن مسلم) أكثر من يفعل ذلك كما في ترجمته، وهذا لم يثبت عنه إلا في حديث الأوزاعي خاصة.
ج _ ذكر من وصف بذلك وهم :
1- بقية بن الوليد.
2- الوليد بن مسلم.
3- صفوان بن صالح (13)
4- ومحمد بن المصفى(14)
5- سلمان الأعمش .
6- الثوري(15)
7- هشيم بن بشير(16).
8- سنيد بن داود(17).
9- إبراهيم بن عبد اله المصيصي(18).
10- أصحاب بقية بن الوليد(19).
وكان مالك بن أنس يفعل ذلك ولكن لم يكن يقصد التسوية ، ينظر ( النكت ) لابن حجر على ابن الصلاح 2/618-620.ولا أعلم غير هؤلاء وصفوا بالتسوية.
وأما تدليس الشيوخ
فهو أن يسمي شيخه أو يكنيه خلاف المشهور في اسمه أو كنيته كما فُعِل بـ ( محمد بن سعيد الأسدي الشامي المصلوب ) قال ابن حجر : قيل : قلبوا اسمه على مائة وجه ليخفى.
فالذي ينبغي عمله تجاه هذا النوع هو تحديد اسم الراوي والتأكد من ذلك حسب.
وأما تدليس الإرسال
فينظر في ثبوت لقاء وسماع هذا الراوي من شيخه الذي روى عنه فإذا ثبت ذلك فتحمل باقي أحاديثه على الاتصال حتى يدل دليل على خلاف ذلك كأن يكون لم يسمع منه إلا القليل أو حديثا بعينه لم يسمعه ، وقد تقدم الكلام على هذا .
وأما تدليس العطف
فهو أن يروي الراوي عن شخص سمع منه ثم يعطف عليه راو آخر لم يسمع منه ، وقد روى الحاكم في ( معرفة علوم الحديث ) ص 131 فقال: ( وفيما حدثونا أن جماعة من أصحاب هشيم اجتمعوا يوما على أن لا يأخذوا منه التدليس ففطن لذلك فكان يقول في كل حديث يذكره : حدثنا حسين ومغيرة عن إبراهيم ، فلما فرغ قال لهم : هل دلست لكم اليوم ، فقالوا : لا ، فقال: لم أسمع من مغيرة حرفا مما قلته إنما قلت حدثني حصين ، ومغيرة غير مسموع لي ) ا.هـ.
فهذه القصة لم يسندها الحاكم فعلى هذا لا تصح ، ومن ذكرها إنما ذكرها عن الحاكم – فيما أعرف-.
ولكن في ( العلل) للإمام أحمد برواية عبد الله خبرا من رواية هشيم قد يصلح أن يكون مثالا على هذا النوع ، قال عبد الله (2192) ثني أبي ثنا هشيم قال : وعبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر...
قال عبد الله : سمعت أبي يقول: لم يسمعه هشيم من عبيد الله . وكان عبد الله قد روى قبل ذلك عن أبيه : ثنا هشيم أخبرنا الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ... ثم قال : ثنا هشيم قال : وعبيد الله بن عمر ... فظاهر هذا أن هذا من تدليس العطف.
وأما تدليس المتابعة
فأعني به أن يروي الراوي خبرا عن شيخين له أو أكثر ويكون بين من روى عنهم اختلاف إما باللفظ أو الإسناد ، فيحمل رواية أحدهما على الآخر ولا يبين .
قال ابن رجب في ( شرح العلل) ص 506:
(شعيب بن أبي حمزة عن ابن المنكدر روى عنه أحاديث منها: حديث ابن المنكدر عن جابر مرفوعا ( من قال حين يسمع النداء ... الحديث ) وقد خرجه البخاري في صحيحه وله علة ذكرها ابن أبي حاتم عن أبيه ، قال: قد طعن في هذا الحديث وكان عرض شعيب على ابن المنكدر كتابا فأمر بقراءته عليه فعرف بعضا وأنكر بعضا ، وقال لابنه أو ابن أخيه : اكتب هذه الأحاديث، فدوّن شعيب ذلك الكتاب ولم تثبت رواية شعيب تلك الأحاديث على الناس ، وعرض عليّ بعض تلك الكتب فرأيتها مشابها لحديث إسحاق بن أبي فروة ، وهذا الحديث من تلك الأحاديث ، قال ابن رجب : ومصداق ما ذكره ابن أبي حاتم أن شعيب بن أبي حمزة روى عن ابن المنكدر عن جابر حديث الاستفتاح في الصلاة بنحو سياق حديث علي ، وروي عن شعيب عن ابن المنكدر عن الأعرج عن محمد بن مسلمة ،فرجع الحديث إلى الأعرج ، وإنما رواه الناس عن الأعرج عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي بن أبي طالب ، ومن جملة من رواه عن الأعرج بهذا الإسناد إسحاق بن أبي فروة ، وقيل إنه رواه عن عبد الله بن الفضل عن الأعرج.
وروي عن محمد بن حمير عن شعيب عن ابن أبي فروة وابن المنكدر عن الأعرج عن محمد بن مسلمة .
ورواه أبو معاوية عن شعيب عن إسحاق عن الأعرج عن عبيد الله بن أبي رافع عن محمد بن مسلمة ، فظهر بهذا أن الحديث عن شعيب عن أبي فروة وكذا قال أبو حاتم الرازي : هذا الحديث من حديث ابن أبي فروة يرويه شعيب عنه .
وحاصل الأمر: أن حديث الاستفتاح رواه شعيب عن إسحاق بن أبي فروة وابن المنكدر ، فمنهم من ترك إسحاق وذكر ابن المنكدر ، ومنهم من كنى عنه فقال : عن ابن المنكدر وآخر ، وكذا وقع في سنن النسائي ، وهذا مما لا يجوز فعله وهو أن يروي الرجل حديثا عن اثنين أحدهما مطعون فيه والآخر ثقة ، فيترك ُ ذكر المطعون فيه ويذكر الثقة ، وقد نص الإمام أحمد على ذلك وعلّله بأنه ربما كان في حديث الضعيف شيء ليس في حديث الثقة وهو كما قال فإنه ربما كان سياق الحديث للضعيف ، وحديث الآخر محمولا عليه، فهذا الحديث يرجع إلى رواية إسحاق بن أبي فروة وابن المنكدر ، ويرجع إلى حديث الأعرج ورواية الأعرج له معروفة (20) عن ابن أبي رافع عن علي ، وهو الصواب عند النسائي والدار قطني وغيرهما ، وهذا الاضطراب الظاهر أنه من ابن أبي فروة لسوء حفظه وكثرة اضطرابه في الأحاديث وهو يروي عن ابن المنكدر ...
وقد كان بعض المدلِّسين يسمع الحديث من ضعيف فيرويه عنه ويدلِّسه معه عن ثقة لم يسمعه منه فيظن أنه سمعه منهما كما روى معمر :
عن ثابت وأبان وغير واحد عن أنس عن النبي (( أنه نهى عن الشغار) قال أحمد: هذا عمل أبان يعني أنه حديث إبان وإنما معمر يعني لعله دلسه ...
ومن هذا المعنى : أن ابن عيينة كان يروي عن ليث وابن أبي نجيح جميعا عن مجاهد عن أبي معمر عن علي حديث القيام للجنازة .
قال الحميدي : فكنا إذا وقفناه عليه لم يدخل في الإسناد أبا معمر إلا في حديث ليث خاصة ، يعني أن حديث : ابن أبي نجيح كان يرويه عن مجاهد عن علي منقطعا ، وقد رواه ابن المديني وغيره عن ابن عيينة بهذين الإسنادين ورواه ابن أبي شيبة وغيره عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح وحده وذكر في إسناده مجاهدا وهو وهم .
قال يعقوب بن شيبة : كان سفيان بن عيينة ربما يحدث بالحديث عن اثنين فيسند الكلام عن أحدهما فإذا حدث به عن الآخر على الانفراد أوقفه أو أرسله ) ا.هـ.
في هذا الكلام الذي سبق ذكر ابن رجب ثلاثة أمثلة والكلام فيها قد يطول وبالذات الحديث الأول ، ولكن أذكر باختصار معنى ما ذكره ابن رجب فيما يتعلق بهذا النوع من أنواع التدليس :
فأما الحديث الأول : فأقول وبالله التوفيق :
شعيب من كبار الحفاظ وحديثه على ثلاثة أقسام :
1- إذا حدث عن الزهري وهو أصح حديثه ، بالذات إذا كان من كتابه فكتبه من أصح الكتب وقد أثنى عليها أحمد ثناء كبيراً .
2- إذا حدث عن غير الزهري ولا يكون شيخه ابن المنكدر كنافع مثلا، وهذا أيضا صحيح ، ولكن دون الأول ، وبالذات إذا كان من كتابه .
3- إذا حدث عن ابن المنكدر فقد تكلم أبو حاتم الرازي في روايته عنه والسبب في ذلك أن شعيبا أراد أن يسمع من ابن المنكدر فكتب أحاديثه ويظهر أنه أخذها من غير ثبت ولعله ابن أبي فروة فعندما عرضها على ابن المنكدر عرف بعضها وأنكر البعض ويبدو أن شعيبا لم يصحح ذلك وبقي الكتاب عنده وكان شعيب عسرا في الرواية وعندما نزل به الموت جاء إليه وجوه الحمصيين وطلبوا منه الرواية عنه فأجازها لهم فرووها من كتبه ومنها روايته عن ابن المنكدر ومن حديث ابن المنكدر حديث الاستفتاح، وكان شعيب سمعه أيضا من ابن أبي فروة ، فروي عن شعيب عن ابن أبي فروة وابن المنكدر ، وروي أيضا عن ابن المنكدر لوحده ويرى ابن رجب أن لفظ الحديث إنما هو لابن أبي فروة وليس لابن المنكدر ، واستدل بهذا على تأييد كلام أبي حاتم الرازي في حديث الدعاء بعد الأذان، وهذا الحديث صححه البخاري بإخراجه في صحيحه ( 614) وأخرجه الترمذي (211) وقال (حديث حسن (21) غريب من حديث ابن المنكدر لا نعلم أحداً رواه غير شعيب بن أبي حمزة )
وصححه ابن خزيمة ( 420) وابن حبان (1681) ,
والكلام على هذا المثال يطول، ولكن كما ذكرت المقصود هو الكلام على هذا النوع من أنواع التدليس .
وأما المثال الثاني الذي ذكره :
فرواه معمر عن ثابت وأبان بن أبي عياش وهو متروك كلاهما عن أنس ، فذهب أحمد إلى أن اللفظ المذكور إنما هو لفظ أبان وليس ثابت ، وأن لفظ حديث ثابت يختلف فعلى هذا يكون الحديث ضعيفاً .
وأما المثال الثالث:
فروى ابن عيينة حديثا عن ليث وهو ابن أبي سليم وهو ضعيف عن مجاهد عن أبي معمر عن علي رضي الله عنه به.
ورواه أيضا عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن علي به ، ومجاهد لم يسمع من علي فيكون منقطعا ، فأحيانا يروي ابن عيينة الحديث عنهما فيعطف رواية ابن أبي نجيح على رواية ليث ولا يبين وهذا يفيد أن ابن عيينة أحيانا يدلس عن الضعفاء وإن كان الغالب عليه لا يدلس إلا عن الثقات.
ومن الأمثلة على ذلك:
ما رواه أبو داود (1573) من طريق ابن وهب أخبرني جرير بن حازم وسمى آخر عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة والحارث الأعور عن علي رضي الله عنه فذكر حديثا في الزكاة.
-
قال الزيلعي في ( نصب الراية) 2/328:
(ولا يقدح فيه ضعف الحارث لمتابعة عاصم له ، وقال عبد الحق في أحكامه : هذا حديث رواه ابن وهب عن جرير بن حازم عن أبي إسحاق عن عاصم ،والحارث عن علي ، فقرن أبو إسحاق بين عاصم والحارث ، والحارث كذاب ، وكثير من الشيوخ يجوز عليه مثل هذا ، وهو أن الحارث أسنده وعاصم لم يسنده فجمعهما جرير وأدخل حديث أحدهما في الآخر وكل ثقة رواه موقوفا، ، فلو أن جريرا أسنده عن عاصم وبين ذلك أخذنا به ) اهـ من ( نصب الراية).
قلت: وما قاله عبد الحق واضح وهو أن رواية عاصم عن علي موقوفة ، قال أبو داود : ورواه شعبة وسفيان وغيرهما عن أبي إسحاق عن عاصم عن علي ولم يرفعوه . ا.هـ.
وأما رواية الحارث عن علي فهي مرفوعة فرواه جرير عن أبي إسحاق عن عاصم والحارث عن علي مرفوعا ، والصواب التفصيل كما تقدم .
مثال آخر:
روى الترمذي (1728) ثنا قتيبة ثنا سفيان بن عيينة وعبد العزيز بن محمد عن زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن وعلة عن ابن عباس رفعه : (أيما إهاب دبغ فقد طهر).
قلت: اختلف الرواة عن زيد بن أسلم في لفظ هذا الحديث فبعضهم رواه بلفظ ( أيما...) كما هي رواية ابن عيينة ، ورواه آخرون بلفظ ( إذا دبغ الإهاب ...) كما هي رواية مالك وغيره وفي رواية قتيبة السابقة يبدو أنه عطف رواية الدراوردي على رواية ابن عيينة لأنه جاء من طريق آخر عن الدراوردي بلفظ ( إذا دبغ ... ) فقد رواه الدارقطني 1/46 في (سننه) من طريق ابن أبي مذعور عن الدراوردي به.
والأمثلة على هذا النوع من أنواع التدليس تكثر لمن أراد أن يتتبعها ، فهذا النوع من أنواع التدليس مهم جدا ، ويخفى على الكثير كما قال عبد الحق ( وكثير من الشيوخ يجوز عليه مثل هذا ) ، وعندي أن هذا النوع أخطر وأكثر خفاءً من تدليس التسوية لأمرين:
1- لكثرة وقوعه بخلاف التسوية ، فإنه نادر .
2- لأنه أكثر خفاء من التسوية كما تقدم .
والله تعالى أعلم .
وقليل من نبه على هذا النوع من أنواع التدليس ، وقد نبه عليه أيضا الخطيب فقال ( الكفاية) ص 377:
(باب في المحدث يروي حديثا عن الرجلين أحدهما مجروح هل يجوز للطالب أن يسقط اسم المجروح – وذكر مثالا ثم قال : ولا يستحب للطالب أن يسقط المجروح ويجعل الحديث عن الثقة وحده خوفا من أن يكون في حديث المجروح ما ليس في حديث الثقة وربما كان الراوي قد أدخل أحد اللفظين في الآخر أو حمله عليه وقد سئل أحمد بن حنبل عن مثل هذا في الحديث يروى عن ثابت البناني وأبان بن أبي عياش عن أنس فقال فيه نحوا مما ذكرنا )ا.هـ.
وبسبب ذلك تكلم الحفاظ في جمع من الرواة كانوا إذا حدثوا أحيانا يجمعون أكثر من واحد من شيوخهم في الحديث الواحد أو المسالة الواحدة ولا يفرقون بين رواية أحدهم عن الآخر وقد يكون بينهما اختلاف.
قال المروذي : سألت أحمد عن ( محمد بن إسحاق) ، فقال : هو حسن الحديث ولكنه إذا جمع بين الرجلين ، قلت : كيف ، . قال : يحدث عن الزهري فَيَحْمِلُ حديث هذا على هذا .. ا.هـ من (العلل) رواية المروذي ص 61.
-
وقال ابن سعد في ( الطبقات) 6/349:
(إن ليثا (22).كان سأل عطاء وطاؤوس ومجاهدا عن الشيء فيختلفون فيه ، فيحكي عنهم في ذلك الاتفاق من غير تعمد له ) ا.هـ.
-
وقال أبو يعلى الخليلي في ( الإرشاد) 1/417:
( ذاكرت يوما بعض الحفاظ فقلت :البخاري لم يخرج حماد بن سلمة في الصحيح وهو زاهد ثقة . فقال : لأنه جمع بين جماعة من أصحاب أنس ، فيقول : حدثنا قتادة وثابت وعبد العزيز بن صهيب ، وربما يخالف في بعض ذلك . فقلت : أليس ابن وهب اتفقوا عليه وهو يجمع بين أسانيد ، فيقول ثنا مالك وعمرو بن الحارث والليث بن سعد والأوزاعي بأحاديث ويجمع بين جماعة غيرهم . فقال : ابن وهب أتقن لما يرويه وأحفظ له) ا.هـ
قال ابن رجب – تعليقا على ما تقدم-:
( ومعنى هذا أن الرجل إذا جمع بين حديث جماعة وساق الحديث سياقة واحدة فالظاهر أن لفظهم لم يتفق فلم يقبل هذا الجمع إلا من حافظ متقن لحديثه يعرف اتفاق شيوخه واختلافهم كما كان الزهري يجمع بين شيوخ له في حديث الإفك وغيره) ا.هـ من (شرح العلل) ص 463.وقد أطال ابن رجب في ( شرح العلل) الكلام على هذه المسألة وذكر الأمثلة الكثيرة على ذلك .
وأما تدليس القطع
فلا أعرف أن أحدا وصف به سوى ( عمر بن علي المقدمي ) وتقدم الكلام على هذا ، ويظهر أن فعله لهذا نادر.
وأما تدليس الصيغ
فالمقصود به : عندما يستعمل بعض الرواة صيغة التحديث أو الإخبار في الإجازة موهما للسماع ونحو ذلك من تدليس صيغة التحمل .
-
قال أبو الفضل بن حجر في ( طبقات المدلسين ) ص 62:
( ويلتحق بالتدليس ما يقع من بعض المحدثين من التعبير بالتحديث أو الإخبار عن الإجازة موهما للسماع ولا يكون سمع من ذلك الشيخ شيئا ) ا.هـ .
ونبه عليه أيضا في ( النكت على ابن الصلاح) ينظر 2/624 ، 625 ،633.
وممن وصف بذلك أبو نعيم الأصبهاني ، قال ابن حجر في طبقات المدلسين ص 82: ( كانت له إجازة من أناس أدركهم ولم يلقهم فكان يروي عنهم بصيغة أخبرنا ولا يبين كونها إجازة لكنه كان إذا حدث عمن سمع منه يقول : ثنا سواء ذلك قراءة أو سماعا وهو اصطلاح له تبعه عليه بعضهم ، وفيه نوع تدليس لمن لا يعرف ذلك ) ا.هـ.
قلت : والأمثلة على هذا كثيرة .
وأما تدليس البلدان
فهو: أن يقول الراوي مثلا: حدثنا بما وراء النهر ، ويقصد بالنهر ( دجلة ) وليس ( نهر جيحون ) ينظر (الاقتراح) لابن دقيق العيد ص 212.
و أما تدليس المتون
فقد ذكره أبو المظفر السمعاني في كتابه ( قواطع الأدلة) 2/323 فقال: (وأما من يدلس في المتون فهذا مطرح الحديث مجروح العدالة وهو ممن يحرف الكلم عن مواضعه فكان ملحقا بالكذابين ولم يقبل حديثه ) ا.هـ.
قلت: إذا كان أبو المظفر يقصد تغيير المتن تعمدا من الراوي أو حمل هذا المتن على إسناد آخر فهذا كذب لمن تعمده ، ولكن لا يسمى – اصطلاحا- تدليسا، وأما إذا لم يتعمد فهذا أيضا لا يسمى تدليسا وإنما خطأ وسوء حفظ(23).
وأما التدليس الأخير
وهو الحادي عشر : فالمقصود به هو مثل ما روه أبو إسحاق السبيعي عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال : خرج النبي eلحاجته ... ا.هـ .
وقد اختلف على أبي إسحاق في هذا الحديث فرواه : زهير عنه عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن عبد الله ، ورواه غيره عن أبي إسحاق غير ما تقدم.
-
قال أبو عبد الله الحاكم في ( معرفة علوم الحديث ) ص 135:
(قال علي : وكان زهير وإسرائيل يقولان عن أبي إسحاق أنه كان يقول ليس أبو عبيدة حدثنا ولكن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الاستنجاء بالأحجار الثلاثة ، قال ابن الشاذكوني : ما سمعت بتدليس قط أعجب من هذا ولا أخفى ، قال أبو عبيدة : لم يحدثني ولكن عبد الرحمن عن فلان عن فلان ولم يقل حدثني فجاز الحديث وسار ) ا.هـ.
فالشاذكوني يرى أن أبا إسحاق دلس في قوله: ليس أبو عبيدة ذكره ... ولذلك قال : ما سمعت بتدليس قط أعجب من هذا ولا أخفى ، وهو تدليس في الإسناد في الحقيقة ولكن صورته قد تختلف .
قلت: ومثله ما رواه عبد الله بن أحمد في ( العلل) (2229) فقال : ثني أبي قال ثنا هشيم قال : أما المغيرة وأما الحسن بن عبيد الله عن إبراهيم : لم ير بأسا بمصافحة المرأة التي قد خلت من وراء الثوب .
قال عبد الله : سمعت أبي يقول : لم يسمعه هشيم من مغيرة ولا من الحسن بن عبيد الله ا.هـ.
وقريب مما تقدم ولكنه ليس مثله:
ما رواه أيضا عبد الله في ( العلل)(2243) : ثني أبي ثنا هشيم عن التيمي عن أبي الضحى والحسن بن عبيد الله عن أبي الضحى أن رجلا جاء إلى ابن عباس ... قال عبد الله ، قال أبي : لم يسمعه من التيمي ولا من الحسن بن عبيد الله شيئا.

الهوامش :


(1)
مثل ما حصل في باب الاعتقاد من مخالفة الكثير لطريقة السلف في ( علم التوحيد ) و تكلموا في ذات الله تعالى وصفاته بأدلة العقول و تركوا الكتاب والسنة فأدى هذا بهم إلى إنكار أسماء الله وصفاته وعلوه على خلقه فضلوا وأضلوا .
ومثل ما حصل أيضاً في أبواب الفقه من التعصب لأقوال العلماء والاقتصار عليها في التفقه دون التفقه على الكتاب والسنة والرجوع إليهما ، قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى : ( عجبت لمن عرف الإسناد و صحته يذهب إلى قول سفيان ) .
وقال أبو الفرج ابن رجب رحمه الله تعالى : ( ومن ذلك ـ أعني محدثات العلوم ما أحدثه فقهاء أهل الرأي من ضوابط وقواعد عقلية ورد فروع الفقه إليها وسواء خالفت السنن أو وافقتها طردا لتلك القواعد المقررة وإن كان أصلها مما تأولوه على نصوص الكتاب والسنة ، لكن بتأويلات يخالفهم غيرهم فيها . وهذا هو الذي أنكره أئمة الإسلام على من أنكروه من فقهاء الرأي في الحجاز والعراق و بالغوا في ذمه وإنكاره .فأما الأئمة وفقهاء أهل الحديث فإنهم يتبعون الحديث الصحيح حيث كان إذا كان معمولا به عند الصحابة ومن بعدهم أو عند طائفة منهم ، فأما ما اتفق السلف على تركه فلا يجوز العمل به ..) اهـ ( من فضل علم اسلف على الخلف ).
ومن ذلك ما حصل في علم أصول الفقه من سلوك طريقة المتكلمين وإدخال علم الكلام المذموم في أصول الفقه .
قال أبو المظفر السمعاني في ( قواطع الأدلة ) 1 / 5-6 : ( و مازلت طول أيامي أطالع تصانيف الأصحاب في هذا الباب ، وتصانيف غيرهم فرأيت أكثرهم قد قنع بظاهر من الكلام ورائق من العبارة ، ولم يداخل حقيقة الأصول على ما يوافق معاني الفقه ، ورأيت بعضهم قد أوغل وحلل وداخل غير أنه حاد عن محجة الفقهاء في كثير من المسائل وسلك طريقة المتكلمين الذين هم أجانب عن الفقه ومعانيه ، بل لا قبيل لهم فيه ولا دبير ولا نقير ولا قطمير ( ومن تشبع بما لم يعط فقد لبس ثوبي زور )..) اهـ.
و غير ذلك مما خالف فيه كثير من الناس طريقة السلف ، ومازال أهل العلم بحمد الله تعالى ينبهون على ذلك ويدعون إلى السير على منهج السلف الصالح و لا يظن أنني عندما أدعو إلى السير على طريقة الأئمة المتقدمين في علم أصول الحديث أنني أدعو إلى عدم الأخذ بكلام من تأخر من أهل العلم و الاستفادة منهم ، هذا لم أقل به ولا يقول به عاقل ، ومع الأسف ظن بعض الإخوان هذا ، ثم عندما ظن هذا الظن السىء و تخيل بعقله هذا الرأي الفاسد أخذ يرد بسذاجة واضحة على هذا القول حتى إنه عندما أراد أن يؤيد رأيه ضرب مثلا بأبي الفداء ابن كثير وأتى بمثال يبين فيه أن ابن كثير يستطيع أن ينقد الأخبار ويبين العلل التي تقدح في صحة الحديث .
فيا سبحان الله ! هل هذا الإمام الجليل ، والحافظ الكبير يحتاج إلى أن نأتي بمثال حتى يشهد له بالعلم بالحديث ومؤلفاته كلها تشهد بعلو كعبه في هذا العلم وتمكنه من صناعة الحديث حتى كأن السنة بين عينيه ، حتى أن طالب العلم ليعجب من هذا العالم الجليل عندما يسوق الأخبار من كتب الحديث بأسانيدها ثم يؤلف بينها ويتشبه في هذا بمسلم ابن الحجاج وأبي عبدالرحمن النسائي هذا مع الكلام على أسانيدها ونقد متونها وهو رحمه الله تعالى من البارعين في نقد المتون ، حتى أنه عندما يتكلم في باب من أبواب العلم يغنيك عن الرجوع إلى كتب كثير كما فعل عندما ساق حجة الرسول صلى الله عليه وسلم منذ خروجه من المدينة إلى مكة إلى رجوعه ، ويأخذك العجب من استحضاره وقوة علمه وجلالة فضله ، وهذا جزء يسير من كتابه النفيس ( البداية والنهاية ) الذي ذكر فيه بدء الخليقة إلى قصص الأنبياء عليه الصلاة والسلام إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إلى زمنه يسوق النصوص من كتاب الله ومن السنة النبوية و مما جاء عن الصحابة والتابعين وهلم جرا .
وتفسيره النفيس الذي أتى فيه بالعجب و فسر فيه القرآن بالقرآن ، وبالسنة والآثار التي جاءت عن الصحابة والتابعين . فمن أنكر علم هذا الفاضل إما أن يكون إنسانا غاية في البلادة أو ممن أعمى الله بصره وبصيرته ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . ومما يستغرب من هؤلاء الإخوان أنهم قالوا : لا تقولوا ( مذهب المتقدمين ) وهذا عجيب لأنه :
أولا: لا مشاحة في الاصطلاح.
ثانياً : أن أهل العلم استخدموا ذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى النقل عنهم .
ثالثاً : أن هذا الاسم مطابق للمسمى كما هو ظاهر .
رابعاً : أي فرق بين أن يقال ( مذهب المتقدمين ) أو ( أهل الحديث ) أو ( أئمة الحديث ) أو نحو ذلك .
خامساً : أن هذه الكلمة لا تخالف كتابا ولا سنة ولا إجماعا ، وإنما هو اصطلاح مثل باقي الاصطلاحات ، لا يدعو إلى مثل هذا الإنكار الذي جرى من هؤلاء الإخوان والعجيب أن هؤلاء الإخوان أخذوا يدعون إلى مثل ما نقول به ، فقالا: ينبغي دراسة مناهج المحدثين . وأي فرق بين الدعوة إلى دراسة (مناهج المحدثين ) أو دراسة ( منهج المتقدمين ) ، فالأول هو الثاني ولا فرق وإن كان فرق عندهم فليبينوه والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل .
(2)
الذي يظهر أن الحافظ ابن حجر لا يقصد التقليد الأعمى وإنما يقص المتابعة لهم والسير على منهاجهم .
(3)
ـ كذا .
(4)
بعض الكلمات كانت غير واضحة ـ بالنسبة لي ـ في المخطوط فنقلتها من ( توضيح الأفكار ) .
(5)
في المطبوع : أن .
(6)
وقد ذكر أهل العلم تقسيمات أخرى للتدليس .
(7)
وقد وصفه الحافظ ابن حجر بذلك على الصواب كما في ( طبقات المدلسين ) له .
(8)
أي ممن تقدم .
(9)
قد يلاحظ على ابن سعد اهتمامه بالتدليس من خلال حكمه على الرواة .
(10)
سيأتي إن شاء الله تعالى الكلام عليه .
(11)
كذا ، ويبدو أن هناك سقاط في الكلام .
(12)
وهذا النوع من التدليس لم يثبت أن الوليد كان يفعله إلا في حديث الأوزاعي.
(13)
وصفه بذلك أبو زرعة الدمشقي ، كما في ( المجروحين) لابن حبان 1/94.
(14)
وصفه بذلك أبو زرعة الدمشقي، كما في ( المجرحين ) لابن حبان 1/94.
(15)
وصفهما ( الأعمش والثوري) الخطيب كما في ( الكفاية ) ص 364 ونقل في ص 365 عن عثمان بن سعيد الدارمي أن الأعمش ربما فعل ذا.اهـ
(16) (
النكت ) لابن حجر 2/621 ، وقد ذكر الإمام أحمد أمثلة كثيرة جدا على تدليس هشيم كما في العلل برواية عبد الله ،وفي هذه الأمثلة أنواع من التدليس كان يفعلها هشيم ،ومنها (733) لعله من تدليس التسوية .
((17
وصفه بذلك ابن رجب كما في شرح العلل ص 473.
(18)
وصفه ابن حبان بذلك في ( المجروحين) 1/ 116.
(19)
كما (في المجروحين) لابن حبان 1/201 فقال : وإنما امتحن بقية بتلاميذ له كانوا يسقطون الضعفاء من حديثه ويسوونه فالتزق ذلك كله به اهـ
(20)
في الأصل معرفة.
(21)
هذا ما جاء في أكثر نسخ الترمذي ، وفي نسخة : ( حسن صحيح) ،والأول أصح لأنه جاء في أكثر النسخ.
(22)
هو : ابن أبي سليم.
(23)
وقال محقق ( القواطع ) : تدليس المتون : هو المسمى في اصطلاح المحدثين ( المدرج) .. قلت : فإذا كان المقصود هو هذا فهذا يسمى في الاصطلاح إدراجا كما تقدم.

 

موقع الإسلام اليوم

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الاختلاف في اسم الراوي ونسبه إذا كان متردداً بين ثقة وضعيف د ماهر الفحل

  الاختلاف في اسم الراوي ونسبه إذا كان متردداً بين ثقة وضعيف الاختلاف في الأسانيد ملحظ مهم للرجل الذي يحب الكشف عن العلل الكامنة في ...