الجمعة، 26 أغسطس 2022

اختلاف الضعيف مع الثقات

 


اختلاف الضعيف مع الثقات 

إذا خولف الثقة في حَدِيْث من الأحاديث فهنا مسألة يأخذها النقاد بنظر الاعتبار فيوازنون ويقارنون بَيْنَ المختلفين فإذا خولف الثقة من قِبَلِ ثقة آخر فيحكم حينئذٍ لرواية من الروايات بحكم يليق بِهَا وكذا تأخذ المقابلة الحكم بالضد أما إذا خولف الثقة برواية ضعيف من الضعفاء ، فلا يضر حينئذٍ الاختلاف لرواية الثقة ؛ إذ إن رِوَايَة الثقات لا تعل برواية الضعفاء ([1]) ؛ فرواية الثقة معروفة ورواية الضعيف منكرة فعلى هَذَا المنكر من الْحَدِيْث هُوَ : المنفرد المخالف لما رَوَاهُ الثقات ([2]) قَالَ الإمام مُسْلِم : (( وعلامة المنكر في حَدِيْث المحدّث إذا ما عرضت روايته للحديث عَلَى رِوَايَة غيره من أهل الحفظ والرضا خالفت روايته روايتهم أو لَمْ تكد توافقها )) ([3]) 

وعليه فإن رِوَايَة الضعيف شبه لا شيء أمام رِوَايَة الثقات الأثبات ولا تعل الرِّوَايَة الصحيحة بالرواية الضعيفة ، وَقَدْ وجدنا خلال البحث والسبر أن بعض العلماء قَدْ عملوا بأحاديث بعض الضعفاء وَهِيَ مخالفة لرواية الثقات ، ومثل هَذَا يحمل عَلَى حسن ظنهم برواية الضعيف وعلى عدم اطلاعهم عَلَى رِوَايَة الثقات .

 

مثال ذَلِكَ :

 

ما رَوَاهُ أبو سعيد يحيى بن سليمان الجعفي ([4])، قَالَ: حَدَّثَنِي ابن وهب ([5])، قَالَ: أخبرني يحيى بن أيوب([6])، عن يحيى بن سعيد، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري([7])، عن أبيه ([8]) (( أن الصعب بن جَثامة ([9]) أهدى للنبي r عجز حمار وحش ، وَهُوَ بالجُحْفَة ([10]) فأكل مِنْهُ وأكل القوم )) ([11]) .

 

فهذا الْحَدِيْث مخالف لرواية الثقات ، وفيه راويان فيهما مقال :

 

الأول : يحيى بن أيوب الغافقي :

 

فهو وإن حسّن الرأي فِيْهِ  جَمَاعَة من الْمُحَدِّثِيْنَ فَقَدْ تَكَلَّمَ فِيْهِ  آخرون ، فَقَدْ ضعّفه أبو زرعة ([12])، والعقيلي ([13])، وَقَالَ أحمد : كَانَ سيء الحفظ ([14])، وَقَالَ أبو حاتم :

(( محله الصدق يكتب حديثه ولا يحتج بِهِ )) ([15])، وَقَالَ النسائي: (( ليس بذاك القوي )) ([16])، وَقَالَ ابن سعد : (( منكر الْحَدِيْث )) ([17])، وَقَالَ الذهبي: (( حديثه فِيْهِ  مناكير ))([18])، وَقَالَ ابن القطان : (( هُوَ ممن قَدْ علمت حاله ، وأنه لا يحتج بِهِ لسوء حفظه )) ([19]) ، وَقَالَ :

(( يحيى بن أيوب يضعف )) ([20]) ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : (( في بعض حديثه اضطراب )) ([21]) ، وَقَدْ ضعفه ابن حزم ([22]) .

 

 

 

الثاني : يحيى بن سليمان الجعفي :

 

قَالَ عَنْهُ أبو حاتم : (( شيخ )) ([23]) ، وَقَالَ النسائي : (( ليس بثقة )) ([24]) .

 

وذكره ابن حبان في " الثقات " وَقَالَ : (( ربما أغرب )) ([25]).

 

ومع تفرد هذين الراويين بهذا الْحَدِيْث فَقَدْ خالفا الثقات في روايته قَالَ ابن القيم عن هَذِهِ الرِّوَايَة : (( غلط بلا شك ، فإن الواقعة واحدة ، وَقَد اتفق الرُّوَاة أنه لَمْ يأكل مِنْهُ، إلا هَذِهِ الرِّوَايَة الشاذة المنكرة )) ([26]) 

والرواية المعروفة الصَّحِيْحة هِيَ ما وردت برواية الجم الغفير عن ابن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عَبْد الله بن عتبة بن مسعود ، عن عَبْد الله بن عَبَّاسٍ ، عن الصعب بن جثامة الليثي ، أنه أهدى لرسول الله r حماراً وحشياً وَهُوَ بالأبواء ([27]) ، أو بودان ([28])، فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه قَالَ: (( إنا لَمْ نرده عليك إلا أنا حرم )) ([29]).

---------

الدكتور ماهر ياسين الفحل 

العراق / الأنبار / الرمادي ص ب 735 .

al-rahman@uruklink.net



([1]) انظر : فتح الباري 3/213 .

([2]) هكذا عرفه ابن الصَّلاَحِ في مَعْرِفَة أنواع علم الْحَدِيْث : 170، وَهُوَ ما اشتهر وانتشر عِنْدَ المتأخرين من الْمُحَدِّثِيْنَ ، فهو عِنْدَ المتأخرين : ما رَوَاهُ الضعيف مخالفاً للثقات ، لَكِنْ ينبغي التنبيه عَلَى أن المتقدمين من الْمُحَدِّثِيْنَ لَمْ يتقيدوا بِذَلِكَ ، وإنما عندهم كُلّ حَدِيْث لَمْ يعرف عن مصدره ثقة كَانَ راويه أم ضعيفاً ، خالف غيره أم تفرد ، إذن فالمنكر في لغة المتقدمين أعم مِنْهُ عِنْدَ المتأخرين ، وَهُوَ أقرب إلى معناه اللغوي ، فإن المنكر لغة : نكر الأمر نكيراً وأنكره إنكاراً ونكراً، معناه : جهله . وجاء إطلاقه عَلَى هَذَا المعنى في مواضع من القرآن الكريم ، كقوله تَعَالَى : } وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ
مُنْكِرُونَ
{ (يوسف:58) ، وقوله تَعَالَى : } يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا { (النحل: 83) وعلى هَذَا فإن المتأخرين خالفوا المتقدمين في مصطلح المنكر بتضييق ما وسعوا فِيْهِ  .

وانظر في المنكر :

الإرشاد 1/219 ، والتقريب : 69 ، والاقتراح : 198 ، والمنهل الروي : 51 ، والخلاصة : 70 ، والموقظة : 42 ، واختصار علوم الْحَدِيْث : 58 ، والمقنع 1/179 ، وشرح التبصرة والتذكرة 1/251 ظبعتنا ، ونزهة النظر : 98 ، والمختصر : 125 ، وفتح المغيث 1/190 ، وألفية السيوطي : 39 ، وشرح السيوطي عَلَى ألفية العراقي : 179 ، وفتح الباقي 1/237 بتحقيقنا ، وتوضيح الأفكار 2/3 ، وظفر الأماني : 356 ، وقواعد التحديث : 131 ، والحديث المعلول قواعد وضوابط : 66-77 .

([3]) صَحِيْح مُسْلِم 1/5 .

فائدة : كتاب الحافظ أبي أحمد بن عدي المسمى بـ : " الكامل في ضعفاء الرجال " أصل في مَعْرِفَة المنكرات من الأحاديث . نكت الزركشي 2/156-157 .

([4]) هُوَ يَحْيَى بن سليمان بن يَحْيَى الجُعفي ، أبو سعيد الكوفي ، نزيل مصر : صدوق يخطئ ، توفي سنة (237 ه‍) . تهذيب الكمال 8/49 (7437) ، والكاشف 2/367 (6181) ، والتقريب (7564) .

([5]) هُوَ عَبْد الله بن وهب بن مُسْلِم القرشي ، مولاهم ، أبو مُحَمَّد المصري : ثقة حافظ عابد ، توفي سنة (197 ه‍) . الثقات 8/346 ، وتهذيب الكمال 4/317 ( 3633 ) ، والتقريب ( 3694 ) .

([6]) هُوَ يَحْيَى بن أيوب الغافقي ، أبو العباس المصري : صدوق رُبَّمَا أخطأ ، توفي سنة ( 168 ه‍ ) .

التاريخ الكبير 8/260 ، وتهذيب الكمال 8/17-18 ( 7387 ) ، والتقريب ( 7511 ) .

([7]) هُوَ جعفر بن عَمْرو بن أمية الضمري المدني ، أخو عَبْد الملك بن مروان من الرضاعة : ثقة ، توفي سنة    (95 ه‍) ، وَقِيْلَ : ( 96 ه‍ ) .

التاريخ الكبير 2/193 ، وتهذيب الكمال 1/468 ( 929 ) ، والتقريب ( 946 ) .

([8]) هُوَ الصَّحَابِيّ الجليل عَمْرو بن أمية بن خويلد ، أبو أمية الضمري ، توفي في خلافة معاوية .

أسد الغابة 4/86 ، وتجريد أسماء الصَّحَابَة 1/400 ( 4324 ) ، والإصابة 2/524 .

([9]) هُوَ الصَّحَابِيّ الجليل الصعب بن جثامة واسمه يزيد بن قيس بن ربيعة الكناني الليثي ، وأمه أخت
أبي سُفْيَان ، توفي في خلافة أبي بكر ، وَقِيْلَ : توفي آخر خلافة عمر ، وَقِيْلَ : عاش إِلَى خلافة عثمان .

أسد الغابة 3/19 ، وتجريد أسماء الصَّحَابَة 1/265 ( 2792 ) ، والإصابة 2/184 .

([10]) وَهِيَ قرية كبيرة ، ذات منبر ، تقع عَلَى طريق مكة ، وَكَانَ اسمها مَهْيَعة ، وسميت بالجحفة ؛ لأن السيل جَحَفها ، وبينها وبين غدير خم ميلان . انظر : مراصد الاطلاع 1/315 .

([11]) رَوَاهُ البيهقي في السنن الكبرى 5/193 ، وَقَالَ : (( هَذَا إسناد صَحِيْح ، فإن كَانَ محفوظاً فكأنه رد الحي وقبل اللحم )) وَقَدْ تعقبه ابن التركماني فَقَالَ : (( هَذَا في سنده يحيى بن سليمان الجعفي عن ابن وهب أخبرني يحيى بن أيوب هُوَ الغافقي المصري ، ويحيى بن سليمان ذكره الذهبي في " الميزان " و" الكاشف "= =عن النسائي أن ليس بثقة ، وَقَالَ ابن حبان : ربما أغرب ، والغافقي قَالَ النسائي : ليس بذاك القوي ، وَقَالَ أبو حاتم: لا يحتج بهِ ، وَقَالَ أحمد : كَانَ سيء الحفظ يخطئ خطأً كثيراً ، وكذبه مالك في حديثين ، فعلى هَذَا لا يشتغل بتأويل هَذَا الْحَدِيْث لأجل سنده ولمخالفته للحديث الصَّحِيْح )) . الجوهر النقي 5/193-194، وانظر : الميزان 4/382 ، والكاشف ( 6181 ) ، والثقات  لابن حبان 9/263 ، والجرح والتعديل 9/154.

([12]) سؤالات البرذعي : 433 .

([13]) الضعفاء الكبير 4/391 .

([14])الجرح والتعديل 9/122 ، وتهذيب الكمال 8/17 .

([15]) الجرح والتعديل 9/128 .

([16]) ضعفائه ( 626 ) .

([17]) طبقات ابن سعد 7/516 .

([18]) تذكرة الحفاظ 1/227-228 .

([19]) بيان الوهم والإيهام 4/69 عقيب ( 1504 ) .

([20]) بيان الوهم والإيهام 3/495 عقيب ( 1269 ) .

([21]) الميزان 4/362 .

([22]) المحلى 1/88 و 6/72 و 7/37 .

([23]) الجرح والتعديل 9/154 .

([24]) تهذيب الكمال 8/49 .

([25]) الثقات 9/263 ، وانظر : تهذيب الكمال 8/49 .

([26]) زاد المعاد 2/164 .

([27]) بالفتح ، ثُمَّ السكون ، وفتح الواو وألف ممدودة : قرية من أعمال الفرع من المدينة ، بينها وبين الجحفة مِمَّا يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلاً . مراصد الاطلاع 1/19 .

([28]) قرية جامعة بَيْنَ مكة والمدينة في نواحي الفرع ، بينها وبين الأبواء ثمانية أميال . انظر : معجم البلدان 5/365 ، ومراصد الاطلاع 3/1429 .

([29]) هَذِهِ الرِّوَايَة أخرجها : مالك في الموطأ ((441) برواية مُحَمَّد بن الحسن الشيباني ، و(53) برواية
عَبْد الرحمان بن القاسم ، و(571) برواية سويد بن سعيد ،و(1146) برواية أبي مصعب الزهري ، و(1015)برواية لليثي) ، والشافعي في المسند (906) بتحقيقنا، والطيالسي (1229) ، وعبد الرزاق     (8322 ) ، والحميدي ( 783 ) ، وابن أبي شيبة ( 14468 ) و ( 14469 ) و ( 14471 ) ، وأحمد 1/280 و 290 و 338 و 341 و 345 و 362 و 4/37 و 38 ، والدارمي ( 1835 )و(1837 ) ، والبخاري 3/16 (1825) و3/203 ( 2573 ) و 3/208 (2596) ، ومسلم4/13( 1193)(50 ) و (51) و(52)و4/14 (1194 ) (53) و(54) ، وابن ماجه ( 3090 ) ، والترمذي ( 849 ) ، وعبد الله بن أحمد في زياداته عَلَى مسند أبيه 4/71 و 72 و 73 ، والنسائي 5/183 و 184 و 185 وفي الكبرى ، له(3801) و ( 3802 ) و ( 3805 ) و (3806) ، وابن الجارود ( 436 ) ، وابن خزيمة (2637)، والطحاوي في شرح المعاني 2/170، وابن حبان(3970)و(3972)و(3973)، =

=   وطبعة الرسالة (3976) و(3969) و(3970)، والطبراني في الكبير (7430)، والبيهقي 5/192-193، وانظر : الأم 8/544، والتمهيد 9/54 ، وتنقيح التحقيق 2/445-446 ، ونصب الراية 3/139 .

اختلاف الثقة مع الثقات د ماهر الفحل

 


اختلاف الثقة مع الثقات 

إن الاختلافات الواردة في المتن أو الإسناد تتفرع أنواعاً متعددة ، لكل نوع اسمه الخاص به ، ومن تلك الاختلافات هو أن يخالف الثقة ثقات آخرين ، مثل هذه المخالفة تختلف ، ربما تكون من ثقة يخالف ثقة آخر ، أو من ثقة يخالف عدداً من الثقات ، وإذا كان المخالف واحداً وليس جمعاً فيشترط فيه أن يكون أوثق ممن حصل فيه الاختلاف ، وهذا النوع من المخالفة يطلق عليه عند علماء المصطلح الشاذ ([1])، وهو: أن يخالف الثقة من هو أوثق منه عدداً أو حفظاً .

 

وهذا التعريف مأخوذ من تعريف الشافعي للشاذ ، فقد روي عن يونس بن

عبد الأعلى ([2])، قال: قال لي الشافعي -رحمه الله-: (( ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يروي غيره ، إنما الشاذ : أن يروي الثقة حديثاً يخالف ما روى الناس )) ([3]) .

 

والشاذ في اللغة : المنفرد ، يقال : شذّ يَشُذُّ ويشِذُّ – بضم الشين وكسرها – أي : انفرد عن الجمهور ، وشذَّ الرجلُ: إذا انفرد عن أصحابه. وكذلك كل شيء منفرد فهو شاذ. ومنه: هو شاذ من القياس، وهذا مما يشذ عن الأصول،وكلمة شاذة…وهكذا ([4]).

 

إذن : الشذوذ هو مخالفة الثقة للأوثق حفظاً أو عدداً ، وهذا هو الذي استقر عليه الاصطلاح ([5]) ، قال الحافظ ابن حجر : (( يختار في تفسير الشاذ أنه الذي يخالف رواية من هو أرجح منه )) ([6]) .

 

ثم إن مخالفة الثقة لغيره من الثقات أمر طبيعي إذ إن الرواة يختلفون في مقدار حفظهم وتيقظهم وتثبتهم من حين تحملهم الأحاديث عن شيوخهم إلى حين أدائها . وهذه التفاوتات الواردة في الحفظ تجعل الناقد البصير يميز بين الروايات ، ويميز الرواية المختلف فيها من غير المختلف فيها ، والشاذة من المحفوظة ، والمعروفة من المنكرة .

 

ومن الأمثلة لحديث ثقة خالف في ذلك حديث ثقة أوثق منه :

 

ما رواه معمر بن راشد ([7])، عن يحيى بن أبي كَثِيْر ، عن عبد الله بن أبي قتادة([8])، عن أبيه ([9]) ، قال : (( خرجت مع رسول اللهزمن الحديبية ، فأحرم أصحابي ولم أحرم ، فرأيت حماراً فحملت عليه ، فاصطدته ، فذكرت شأنه لرسول الله، وذكرت أني لم أكن أحرمت ، وأني إنما اصطدته لك ؟ فأمر النَّبِيّأصحابه فأكلوا ، وَلَمْ يأكل مِنْهُ حِيْنَ أخبرته أني اصطدته لَهُ )) ([10]) .

 

فهذا الحديث يتبادر إلى ذهن الناظر فيه أول وهلة أنه حديث صحيح، إلا أنه بعد البحث تبين أن معمر بن راشد – وهو ثقة – قد شذ في هذا الحديث فقوله : (( إنما اصطدته لك )) ، وقوله : (( ولم يأكل منه حين أخبرته أني اصطدته له )). جملتان شاذتان شذ بهما معمر بن راشد عن بقية الرواة .

 

قال ابن خزيمة : (( هذه الزيادة : (( إنما اصطدته لك )) ، وقوله : (( ولم يأكل منه حين أخبرته أني اصطدته لك )) ، لا أعلم أحداً ذكره في خبر أبي قتادة غير معمر في هذا الإسناد ، فإن صحت هذه اللفظة فيشبه أن يكونأكل من لحم ذلك الحمار قبل

[أن] ([11]) يعلمه أبو قتادة أنه اصطاده من أجله، فلما أعلمه أبو قتادة أنه اصطاده من أجله امتنع من أكله بعد إعلامه إياه أنه اصطاده من أجله ؛ لأنه قد ثبت عنهأنه قد أكل من لحم ذلك الحمار )) ([12]) .

 

هكذا جزم الحافظ ابن خزيمة بتفرد معمر بن راشد بهاتين اللفظتين ، وهو مصيب في هذا ، إلا أنه لا داعي للتأويل الأخير لجزمنا بعدم صحة هاتين اللفظتين – كما سيأتي التدليل عليه - .

 

وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري ([13]) - شيخ الدارقطني - : (( قوله : " اصطدته لك " ، وقوله: " ولم يأكل منه " ، لا أعلم أحداً ذكره في هذا الحديث غير معمر )) ([14]).

 

وقال البيهقي: (( هذه لفظة غريبة لم نكتبها إلا من هذا الوجه ، وقد روينا عن أبي حازم بن دينار ، عن عبد الله بن أبي قتادة في هذا الحديث أن النبيأكل منها ، وتلك الرواية أودعها صاحبا الصحيح ([15]) كتابيهما دون رواية معمر وإن كان الإسنادان صحيحين )) ([16]) .

 

وقال ابن حزم : (( لا يخلو العمل في هذا من ثلاثة أوجه . إما أن تغلب رواية الجماعة ([17]) على رواية معمر لا سيما وفيهم من يذكر سماع يحيى من أبي قتادة ([18]) ، ولم يذكر معمرا ، أو تسقط رواية يحيى بن أبي كثير جملة ؛ لأنه اضطرب عليه ([19]) ، ويؤخذ برواية أبي حازم وأبي محمد وابن موهب الذين لم يضطرب عليهم؛ لأنه لا يشك ذو حسٍّ أن إحدى الروايتين وهم ، إذ لا يجوز أن تصح الرواية في أنه عليه السلام أكل منه ، وتصح الرواية في أنه عليه السلام لم يأكل منه ، وهي قصة واحدة في وقت واحد في مكان واحد في صيد واحد )) ([20]) .

 

وسأشرح الآن شذوذ رواية معمر ، فأقول :

 

خالف معمر رواية الجمع عن يحيى ، فقد رواه هشام الدستوائي ([21]) – وهو ثقة ثبت ([22])-، وعلي بن المبارك ([23]) -وهو ثقة ([24])-، ومعاوية بن سلام ([25]) -وهو ثقة ([26])-، وشيبان بن عبد الرحمان ([27]) -وهو ثقة ([28])-، فهؤلاء أربعتهم رووه عن يحيى بن أبي كثير ، ولم يذكروا هاتين اللفظتين .

 

كما أن الحديث ورد من طريق عبد الله بن أبي قتادة من غير طريق يحيى بن أبي كثير ، ولم تذكر فيه اللفظتان مما يؤكد ذلك شذوذ رواية معمر بتلك الزيادة ؛ فَقَدْ رَوَاهُ عثمان بن عَبْد الله بن موهب ([29]) – وَهُوَ ثقة ([30]) - ، وأبو حازم سلمة بن دينار ([31])

- وَهُوَ ثقة ([32]) - ، وعبد العزيز بن رفيع ([33]) –وَهُوَ ثقة ([34])- ، وصالح بن أبي حسان ([35]) - وهو صدوق ([36]) - ؛ فهؤلاء أربعتهم رووه عن عبد الله بن أبي قتادة ، عن أبيه ، ولم يذكروا هاتين اللفظتين ، كما أن هذا الحديث روي من طرق أخرى عن أبي قتادة ، وليس فيه هاتان اللفظتان : فقد رواه نافع مولى أبي قتادة ([37]) -وهو ثقة ([38])-، وعطاء بن يسار ([39]) - وهو ثقة ([40]) - ، ومعبد بن كعب بن مالك ([41]) - وهو ثقة ([42]) - ، وأبو صالح مولى التوأمة ([43]) - وهو مقبول ([44]) - فهؤلاء أربعتهم رووه دون ذكر اللفظتين اللتين ذكرهما معمر ، وهذه الفردية الشديدة مع المخالفة تؤكد شذوذ رواية معمر لعدم وجودها عند أحدٍ من أهل الطبقات الثلاث .

 

والذي يبدو لي أن السبب في شذوذ رواية معمر بن راشد دخول حديث في حديث آخر ؛ فلعله توهم بما رواه هو عن الزهري، عن عروة، عن يحيى بن عبد الرحمان ابن حاطب، عن أبيه أنه اعتمر مع عثمان في ركب ، فأهدي له طائر ، فأمرهم بأكله ، وأبى أن يأكل ، فقال له عمرو بن العاص : أنأكل مما لست منه آكلاً ، فقال : إني لست في ذاكم مثله ، إنما اصطيد لي وأميت باسمي ([45]) . 

فربما اشتبه عليه هذا الحديث بالحديث السابق ، والله أعلم

الدكتور ماهر ياسين الفحل 

العراق الأنبار الرمادي ص ب 735 . 

al-rahman@uruklink.net 



([1]) انظر في الشاذ : معرفة علوم الحديث : 119 ، ومعرفة أنواع علم الحديث : 68 ، وفي طبعتنا 163 ، وجامع الأصول 1/177 ، والإرشاد 1/213 ، والتقريب : 67 ، وفي طبعتنا : 111 ، والاقتراح : 197 ، والمنهل الروي : 50 ، والخلاصة : 69 ، والموقظة : 42 ، ونظم الفرائد : 361 ، واختصار علوم الحديث : 56 ، والمقنع 1/165 ، وشرح التبصرة والتذكرة 1/192، وفي طبعتنا : 1/246 ، ونزهة النظر : 97 ، والمختصر : 124 ، وفتح المغيث 1/217 ، وألفية السيوطي : 39 ، وشرح السيوطي على ألفية العراقي : 177 ، وفتح الباقي 1/192 ، وفي طبعتنا : 1/232 ، وتوضيح الأفكار 1/377 ، وظفر الأماني : 356 ، وقواعد التحديث : 130 .

([2]) هُوَ يونس بن عَبْد الأعلى بن ميسرة الصدفي ، أَبُو موسى المصري: ثقة فقيه، توفي سنة (264ه‍).

تهذيب الكمال 8/211-212 ( 7773 ) ، والكاشف 2/403 ( 6471 ) ، والتقريب ( 7907 ) .

([3]) رواه عن الشافعي: الحاكم في معرفة علوم الحديث: 119 ، والخليلي في الإرشاد 1/176 ، والبيهقي في معرفة السنن والآثار 1/81-82 ، والخطيب في الكفاية : ( 223 ت ، 141 ه‍ ) .

([4]) انظر : الصحاح 2/565 ، وتاج العروس 9/423 .

([5]) وإنما قلنا هكذا ؛ لأن للشاذ تعريفين آخرين ، أولهما : وهو ما ذكر الحاكم النيسابوري – أن الشاذ هو الحديث الذي ينفرد به ثقة من الثقات ، وليس له أصل متابع لذلك الثقة . معرفة علوم الحديث : 119 .

وثانيهما : وهو ما حكاه الحافظ أبو يعلى الخليلي القزويني من أن الذي عليه حفاظ الحديث أن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد يشذ بذلك شيخ ثقة كان أو غير ثقة ، فما كان عن غير ثقة فمتروك لا يقبل ، وما كان عن ثقة يتوقف فيه ولا يحتج به . الإرشاد 1/176-177 .

([6]) النكت على كتاب ابن الصلاح 2/653-654 .

([7]) تقدمت ترجمته .

([8]) هو عبد الله بن أبي قتادة الأنصاري ، المدني : ثقة ، مات سنة خمس وتسعين .

تهذيب الكمال 4/241 ( 3475 ) ، والكاشف 1/586 ( 2915 ) ، والتقريب ( 3538 ) .

([9]) هو : أبو قتادة الأنصاري ، اسمه الحارث ، ويقال : عمرو أو النعمان ، ابن ربعي ، بكسر الراء وسكون الموحدة بعدها مهملة ، ابن بُلْدُمة ، بضم الموحدة والمهملة بينهما لام ساكنة ، السَّلَمي ، بفتحتين ،المدني ، شهد أحداً وما بعدها .

أسد الغابة 5/374 ، والإصابة 4/158 ، والتقريب (8311) .

([10]) رواه عن معمر عبد الرزاق في مصنفه ( 8337 ) ، ومن طريقه أخرجه الإمام أحمد في المسند 5/304 ، وابن ماجه ( 3093 ) ، وابن خزيمة ( 2642 ) ، والدارقطني في السنن 2/291 ، والبيهقي في السنن الكبرى 5/190 .

([11]) زيادة مني يقتضيها السياق .

([12]) صحيح ابن خزيمة 4/181 عقيب ( 2642 ) ، قال ابن حجر – معلقاً على كلام ابن خزيمة في أن رسول الله r أكل من اللحم قبل علمه بأنه قد صيد له : (( فيه نظر ؛ لأنه لو كان حراماً ما أقر النبي r على الأكل منه إلى أن أعلمه أبو قتادة بأنه صاده لأجله )) فتح الباري 4/30 ، وانظر : التلخيص الحبير 2/297 ط شعبان ، 2/587-588 ط العلمية .

([13]) هو : الإمام الحافظ ، أبو بكر : عبد الله بن محمد بن زياد بن واصل النيسابوري ، صاحب التصانيف المتقنة مِنْهَا " زيادات كتاب المزني " ، مات سنة (324 ه‍) .

المنتظم 6/286-287 ، وسير أعلام النبلاء 15/65 ، ومرآة الجنان 2/217 .

([14]) سنن الدارقطني 2/291 ، وهو في سنن البيهقي 5/190 إذ إنه أخرجه من طريق الدارقطني .

([15]) يعني : الإمام البخاري والإمام مسلم ، وكتاباهما الصحيحان أصح الكتب بعد كتاب الله ، والرواية التي أشار إليها البيهقي سيأتي تفصيلها .

([16]) السنن الكبرى 5/190 ، ومعلوم أنه لا يلزم من صحة الإسناد صحة المتن ولا من ضعف الإسناد ضعف المتن ، انظر : نصب الراية 1/347 .

([17]) وهذا هو الذي نرجحه ؛ لأن الجماعة أولى بالحفظ .

([18]) وإنما قال هذا ابن حزم ؛ لأن يحيى مدلس ، والمدلس لا يقبل حديثه إلا بالتصريح ، والرواية التي أشار إليها ابن حزم ، هي رواية هشام الدستوائي ، عن يحيى عند مسلم 4/15(1196)(59) ، ورواية معاوية بن سلام ، عن يحيى عند مسلم 4/16(1196)(62) .

([19]) وهذا بعيد ؛ لأن شرط الاضطراب استواء الوجوه وعدم إمكان الترجيح ، وهنا لَمْ تستو الوجوه ؛
لانفراد واحد أمام الجماعة ، والترجيح هنا ممكن فرواية معمر شاذة ، ورواية الجماعة
محفوظة .

([20]) المحلى 7/253 .

([21]) عند أحمد 5/301 ، والدارمي (1833) ، والبخاري 3/14(1821) ، ومسلم 4/15(1196)(59) ، والنسائي 5/185 ، وفي الكبرى ( 3807 ) ، وأبي عوانة كما في إتحاف المهرة 4/136(4057) ، والبيهقي 5/188 .

([22]) التقريب ( 7299 ) .

([23]) عند البخاري 3/15(1822)و5/156(4149) ، وأبي عوانة كما في إتحاف المهرة 4/136(4057) .

([24]) التقريب (4787 ) .

([25]) عند مسلم 4/16(1196)(62) ، والنسائي 5/186 وفي الكبرى ( 3808 ) ، وأبي عوانة كما في إتحاف المهرة 4/136(4057) ، والطبراني في مسند الشاميين ( 2855 ) ، والبيهقي 5/178 .

([26]) التقريب ( 6761 ) .

([27]) عند أبي عوانة كما في إتحاف المهرة 4/136(4057) .

([28]) التقريب ( 2833 ) .

([29]) عند أحمد 5/302 ، والدارمي ( 1834 ) ، والبخاري 3/16(1824) ، ومسلم 4/16(1196)(60)و(61) ، والنسائي 5/186 وفي الكبرى ( 3809 ) ، وابن الجارود ( 435 ) ، وابن خزيمة ( 2635 ) ( 2636 ) ، وأبي عوانة كما في إتحاف المهرة 4/136(4057) ، والطحاوي في شرح المعاني 2/173 ، والبيهقي 5/189، وابن عبد البر في التمهيد 21/156 ، وفي الاستذكار          ( 16369 ) .

([30]) التقريب ( 4491 ) .

([31]) عند البخاري 3/202(2570) و 4/34(2854 ) و 7/95(5406)(5407) ، ومسلم 4/17(1196)(63) ، والنسائي 7/205 وفي الكبرى ( 4857 ) ، وابن خزيمة ( 2643 ) ، وأبي عوانة كما في إتحاف المهرة 4/136 ، وابن حبان ( 3977 ) ، والبيهقي 5/188 .

([32]) التقريب ( 2489 ) .

([33]) عند أحمد 5/305 ، ومسلم 4/17(1196)(64) ، وأبي عوانة كما في إتحاف المهرة 4/136 ، وابن حبان ( 3966 ) و ( 3974 ) ، والبيهقي 5/189-190 و 9/322 .

([34]) التقريب ( 4095 ) .

([35]) عند أحمد 5/307 ، وأبي عوانة كما في إتحاف المهرة 4/136 .

([36]) التقريب ( 2850 ) .

([37]) عند مالك في الموطأ ( (443) برواية محمد بن الحسن الشيباني و (426) برواية عبد الرحمان بن القاسم و (570) برواية سويد بن سعيد و (1136) برواية أبي مصعب الزهري و (1005) برواية يحيى الليثي ) ، والشافعي في المسند ( 907 ) بتحقيقنا ، وعبد الرزاق ( 8338 ) ، والحميدي ( 424 ) ، وأحمد 5/296و301و306و308،والبخاري 3/15(1823)و4/49(2914) و7/115(5490) و(5492)،  ومسلم 4/14(1196)(56) و 4/15(1196)(57) ، وأبي داود ( 1852 ) ، والترمذي (847 ) ، والنسائي 5/182 ، وفي الكبرى ( 3798 ) ، وأبي عوانة كما في إتحاف المهرة 4/164 ، والطحاوي في شرح المعاني 2/173 ، وابن حبان ( 3975 ) ، والبيهقي 5/187 ، والخطيب في الفقيه والمتفقه 1/224-225 ، والبغوي في شرح السنة ( 1988 ) ، وفي التفسير ، له 2/85-86(830) .

([38]) هو نافع بن عباس ، بموحدة ومهملة ، أو تحتانية ومعجمة : عياش ، أبو محمد الأقرع المدني ، مولى أبي قتادة ، قيل له ذلك للزومه إياه ، وكان مولى عقيلة الغفارية : ثقة . تهذيب الكمال 7/308 ( 6956 ) ، والكاشف 2/314 ( 5780 ) ، والتقريب : (7074 ).

([39]) عند مالك في الموطأ ( ( 173 ) برواية عبد الرحمان بن القاسم و ( 571 ) برواية سويد بن سعيد و(1137) برواية أبي مصعب الزهري و (1007) برواية يحيى الليثي )، والشافعي في المسند ( 908 ) بتحقيقنا ، وعبد الرزاق ( 8350 ) ، وأحمد 5/301 ، والبخاري 3/202(2570) و 4/49(2914) و7/96 عقيب ( 5407 ) و 7/115(5491) ، ومسلم 4/15(1196)(58) ، والترمذي ( 848 ) ، وأبي عوانة كما في إتحاف المهرة 4/148 ، والطحاوي في شرح المعاني 2/173-174 ، والبيهقي 5/187، والبغوي عقيب ( 1988 ) .

([40]) التقريب ( 4605 ) .

([41]) عند أحمد 5/306 .

([42]) قال العجلي : (( مدني تابعي ثقة )) ، ثقاته : 2/285 (1753) . وذكره ابن حبان في ثقاته 5/432 ، وروى له الإمام البخاري والإمام مسلم ، انظر : تهذيب الكمال 7/166 .

([43]) عند البخاري 7/115(5492) ، وأبي عوانة كما في إتحاف المهرة 4/164 .

([44]) التقريب ( 7091 ) يعني مقبول حيث يتابع ، وقد توبع ، ورواية الإمام البخاري عنه متابعة ، فقد ساقه مقروناً : (( عن نافع مولى أبي قتادة ، وأبي صالح مولى التوأمة ، قال : سمعت أبا قتادة )) .

([45]) هذه الرواية : أخرجها الدارقطني 2/292 ، وأخرجها مالك في الموطأ ( ( 417 ) برواية محمد بن الحسن الشيباني و (577) برواية سويد بن سعيد و ( 1147 ) برواية أبي مصعب الزهري و ( 1016 ) برواية يحيى الليثي ) ، والشافعي في المسند ( 909 ) بتحقيقنا ،والبيهقي 5/191 من طريق عبد الله بن أبي بكر ، عن عبد الله بن عامر ، قال : رأيت عثمان بن عفان بالعَرْجِ ، وهو مُحْرِمٌ ، في يوم صائف ، قد غطى وجهه بقطيفة أرجوان ، ثم أتي بلحم صيد ، فقال لأصحابه : كلوا . فقالوا : أو لا تأكل أنت ؟ فقال : إني لست كهيئتكم ، إنما صيد من أجلي .

الاختلاف في اسم الراوي ونسبه إذا كان متردداً بين ثقة وضعيف د ماهر الفحل

  الاختلاف في اسم الراوي ونسبه إذا كان متردداً بين ثقة وضعيف الاختلاف في الأسانيد ملحظ مهم للرجل الذي يحب الكشف عن العلل الكامنة في ...